٢٧‏/٠٧‏/٢٠٠٨

مرفأ الذكريات ( قصة قصيرة)

  • جلس في مكانه المعتاد وطلب من النادل نارجيلته المعتادة ،وراح ينفث دخان النارجيلة ذو الحلقات الدائرية المتداخلة التي تتسع وتذوب في المكان ،وجعل يرشف القهوة ببطئ شديد حتى يتسنى له الاستمتاع بنكهة التفاح ومذاق القهوة معا ، سكن للحظة وبدأ يتأمل حياته وبدأ شريط الذكريات يلتف أمام عينية وتذكر أول حب له في حياته وتذكر كيف كان يهم ناهضا عائدا إلي بيته حينما كان يسمع جرس آخر حصة له في يومه الدراسي الخانق سالكا نفس الدروب التي طالما تعود أن يسلكها طوال فترة دراسته ، ذلك الطريق الطويل الذي كان يتخلله الصمت الطويل المفعم بروح العبرات وبطعم المقابر فقد كان طريقا جد ممل لدرجة انه كان يتعجب من القدرة الرهيبة لأهل تلك الشوارع على احتمال ذلك الصمت الرهيب ،وعن له في مرفأ الذكريات تلك الفتاة التي كانت دائما تسبقه بعدة خطوات وكانت هي الأخرى تحمل حقيبتها الدراسية المليئة بالأثقال والتي تضطرها أن تسير بعض الخطوات المتقطعة أحيانا ، وكان التأمل هوا الرجاء الوحيد لهما لكي يهربا من ذلك الفراغ الوحشي . فكانا يتأملان كل شيء تقريبا في ذلك الطريق من بيوته وأبوابه وشرفاته ولم تخلو تأملاتهم حتى من حيوانات ذلك الشارع من قطط وكلاب بل وأعمده أحيانا ، وذلك الحوذي الذي كان يمر مسرعا بعربته الخشبية الصغيرة وهو يقرقع بسوطه المرعب الذي كانت ترتعد له فرائص ذاك الحصان الرشيق حالك السواد ، وبعد أن يئس من تأملاته أن تؤنس وحدته جعل يتأمل في تلك الفتاة ذات الشعر الأسود المحلى بالون الأحمر الأرجواني وهوا يتراص خصلة خصلة على كتفها المزين بريفيرا الرداء المدرسي ، قادته قدماه إلي أن يقترب منها أكثر فأكثر حتى تسنى له أن ينظر إلي تلك العيون السوداء بلون الليل الذي تلمع فيه النجوم في أحدى الليالي الصافية ، تلك العيون التي زينت برموش كثيفة واللتان كانا يحملا اسما معاني البراءة والسحر والجمال ، نظرت إلية فأضربت خواطره ولكنه سرعان ما أستعاد وجدانه وتشجع علي الابتسامة لها وإذ بسيل من الغيوم الوجدانية تعتم علي خواطره حينما رأى تلك الابتسامة التي كشفت عن عوارض من ماس . وجدا كلاهما الرياح تحمل جسديهما على الاقتراب أكثر من بعضهما البعض فلم يستطيع أحدا منهم على أن ينطق ببنت شفة فسارا صامتين لبرهة وهما يتأملان تلك الشوارع التي تشبه جزر الكآبة في محيط الكون ، وكسر حاجز ذلك الصمت الرهيب بأولى كلماته المتهدجة بدعوته لها بأن يحمل عنها عبئ ما تحمل من حقيبة دراسية فاستسلمت له وهي تجيبه بصوت شديد الوهن شاكرة إياه ، والتقط يداها واللتان احتضنهما بين يديه الرقيقتين بكل رقة وجعلا يتهامسان بأصواتهم الواهنة حتى اقترب موضع منزلها فسحبت يداها من يديه مودعة إياه بعبرتين انحدرتا من علي وجنتيها المشربتين بحمرة الخجل ، وخرج من مرفأ الذكريات علي ضجيج كلمات الجالسين في المقهى والحلقات الدائرية تتراقص أمامه
.

ليست هناك تعليقات: